هناك فترات نشعر فيها بحيويّة روحيّة كبيرة، تتناوب مع فترات أخرى نشعر خلالها أنه لم يعد شيء يجري على ما يرام. ماذا يجري؟!..
لنحاول فهم تناوب هذه الحالات الداخلية المختلفة.
الحيوية الروحية: التعزية الروحية
نستطيع اختبارها بحالاتها المختلفة
"حالة القلب المشتعل"
يعطينا الإنجيل بعض الأمثلة:
"تهلل يسوع بالروح" (لوقا 10: 21)
زيارة أليصابات "ارتكض الجنين بابتهاج في بطني" (لوقا 1: 44)
عماوس "ألم يكن قلبنا ملتهب" (لوقا 24: 32)
كل كياننا يتجدد في محبة الله. قلبنا يلتهب بالحب، متحطياً كل المصاعب التي يجب تخطيها، كالحبيب الذي يرى الحقيقة متبدلة بالحب الذي يسكن قلبه.
تقول القديسة تيريز الطفل يسوع:"تلك الأفراح الملتهبة التي تكون النفس عاجزة عن استيعابها. لم أذق في حياتي منذ سنين طويلة هذا الفرح. شعرت أن نفسي جديدة وكأننا لمسنا لأول مرة أوتار موسيقية كانت إلى الآن منسية."
"لحظات ألم"
قد أتألم من خطيئتي أو من خطيئة العالم أو من آلام المسيح. هذا الألم يضعني في وضعية إلتقاء مع ألم قلب الله أمام الشر، يفتح أمامي أفق محبته ورحمته. كما في الإنجيل، إن دموع بطرس بعد نكرانه ليسوع، وبكاء يسوع على أورشليم، هي دموع المحبة.
يتكلم القديس بولس عن "الحزن للله يورث توبة تؤدي إلى الخلاص ولا ندم عليها، في حين أن حزن الدنيا يورث الموت". (2كورنثوس7: 10). هذا الحزن بمفهوم الله يؤدي إلى الحب ويخرجنا من سجننا.
"لحظات نمو في الإيمان والرجاء والمحبة"
قلما نشعر بهذه الحالة، إذ نشعر أكثر بحالة "القلب الملتهب" أو "دموع الحب"، ولكنها واقعية تماماً والأكثر حدوثاً بلا شك في حياتنا. إنها خجولة إلى درجة قد تجعلنا لا نلاحظ وجودها، مع أنها هي التي تعطينا أن نتقدم يوماً بعد يوم حتى أثناء التجارب، إنها حالة السلام الداخلي الذي يجعلنا نعيش حياتنا اليومية في محبة إخوتنا. ونحن بذلك نتكل على الله. في الحقيقة، أوليست تلك الحالة هي ترنيمة حب صغيرة تصعد من قلبنا وتجعلنا نتقدم بسكينة وبفرح على طرق الله.
إن التقليد الكنسي يسمي كل هذه الأمور "تعزية روحية". إنها عمل الروح فينا الذي يقوينا ويجعلنا نستلذ بالله ويصعد قلبنا بتناغم مع قلبه ويغير نظرتنا إلى العالم وإلى الآخرين.
يعطينا القديس بولس الصفات التي بموجبها نتعرف إلى التعزية في رسالته إلى أهل غلاطية (5/22): "وأما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان وداعة تعفف."
وهكذا يكون الفرح الذي أشعر به ليس تعزية روحية إذا كان يجعلني سيء النية وشرير تجاه الآخرين. بالمقابل، إذا ضاعف هذا الفرح صبري أو إذا ساعدني على السيطرة على تناولي للكحول بشكل أفضل، أستطيع أن أرى بذلك عمل الروح.
كيف نعيش زمن النعمة هذا؟
• ألا نحلّق! بل على العكس أن نتجسد، أن نبقى على الأرض وأن نستفيد من ذلك لبناء حياتنا الروحية، أن نتقوى لمواجهة فترات مستقبلية قد تكون أصعب بالتفكير في الطريقة التي سأواجه بها تلك الفترات.
• تلك هي عطية من الله لا فضل لنا بها. أن نبقى في الوداعة بالتفكير الدائم بكوننا صغار جداً إذا لم نستند إلى تلك القوة الدافعة الروحية وأن نتشكر الله مصدرها.
الحزن
إنه عكس التعزية.
نعرف جيداً هذا الانقباض الروحي:
لم يعد شيئاً يجري على ما يرام: ظلمة، يأس، شك، تجربة... لم يعد هناك أي تذوق للحياة الروحية. يبدو الله بعيداً جداً. هذا يدعى "حزن روحي". تصبح النفس كسولة، فاترة، حزينة، وكأنها مفصولة عن خالقها وربها. إنها مثل أرض صحراوية بلا ماء تنعشها. في تلك اللحظات، نحن نكون ميالين إلى الوقوع تحت تأثير الروح الشريرة. هذا لا يعني أننا في وضعية الخطيئة، كما لا يعني أن الله يتخلى عنا.
عبرت القديسة تيريز دا أفيلا Therese dAvila بالكلمات التالية:
"تأتي أيام تتبدد فيها كل الأشياء الجميلة والحماس والأحلام، وأنساها. مهما حاولت البحث في داخلي لا أرى أثر لأي شيء جميل.. لا أستطيع التفكير بأي من أمور الله.. لا أمتلك أي شجاعة تخولني من عمل أي فضيلة.. أرى أنني لا أنفع لأي شيء.. أنا حزينة.. وكأنني أسعى لمعاداة كل الذين يعارضونني.
ينعم الله علي أن يمنحني ألا أسيء إليه أكثر مما أفعل عادة، لا أطلب منه أن يخرجني من هذا الوضع، ولكن أن يتركني دائماً فيه إذا كانت تلك هي إرادته وإذا أمسك بيدي حتى لا أسيء إليه. أنا أمتثل لإرادته من كل قلبي، وأعتقد أنها لفضيلة كبيرة من قبله أن لا يتركني دائماً هكذا."
من أين يأتي ذلك؟
هناك ثلاث أسباب رئيسية تدعو إلى الحزن:
• بسبب فتورنا أو خطيئتنا أو إهمالنا في حياتنا الروحية. حين لا نغذي النار بالحطب ستنطفئ النار ببطئ. تلك هي أول ما يجب علينا التأكد منه و.. تقويمه!
• ولكن قد يكون ذلك أيضاً لكي نشعر بقيمتنا: ما هي حقيقة حبي؟ هل أذهب إلى الله من أجله هو أم بكل بساطة من أجل قوة الاندفاع والإشباعات التي يعطيني إياها كطفل لا يذهب إلى أهله إلا من أجل الحصول على السكريات ؟ الحزن هو طريق يطهر الحب من بقايا الأنانية.
• لكي نكتشف أن كل شيء هو نعمة، بما في ذلك اندفاعنا إلى الله. بالفعل، من يستطيع خلق التعزية من نفسه ؟ دعنا لا نتفاخر بما هو عطية من الله.
كيف نعيش هذا الزمن ؟
• التمسك: التمسك بما قررت بينما أشعر برغبة بالتخلي عن كل شيء. هذا ليس وقت مناسب لإعادة التفكير بما تقرر مسبقاً لأن روح الشر هي التي تنصحنا لنميل عن الطريق الصالح. يجب على العكس، التمسك جيداً والإصرار على جميع أساليب الحياة الروحية. يكره العدو أن نقاومه: أن نواجهه بصراحة بدون البدء بمناقشته. "ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا" متى5: 37
• ألا نفقد صوابنا: ليست العاصفة سوى ريح . لنتذكر بطرس الرسول وهو ماشياً على المياه (متى14: 24). ليكن لدينا روح المزح في الحياة الروحية لكي نتحنب المأسوية. أنا لم أعد أشعر بوجود الله ولكنني أعرف أنه هنا وأنه يقول لي كما قال لبطرس: "تكفيك نعمتي"(2كورنثوس12: 9) ولا ننسى أبداً ما قاله لنا يسوع القائم من بين الأموات قبل صعوده إلى السماء: "أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" متى28: 20
• أن نتكلم عن ذلك مع أحدهم لتمييز ماذا يحدث في داخلنا. يسمي يسوع العدو "أب الكذب" (يوحنا8: 44). وحين ينزع قناع الكذب، يفقد كل سلطته. نستطيع اختبار ذلك في فترات التجربة حيث بمجرد التكلم عن الموضوع تختفي التجربة... "الحقيقة ستحرركم" (يوحنا8: 32).
" حين يجتمع عدة أشخاص لإسداء نصيحة، يأتي الله معهم"..
• يهاجمنا الشرير دائماً في نقطة ضعفنا: يجب أن نتدرب على التعرف على نقاط ضعفنا التي تجعلنا نهوي من التعزية إلى الحزن، مثلاً: ذلك الموقف الذي يضعني موضع تجربة، النقص في النوم، اليأس. وحين أعرف نقاط ضعفي، سأنتبه وأبحث عن طريقة مناسبة لمقاومتها، مثلاً: كلمة الله هذه أو تلك التي ستصبح سلاحي في المعركة. وهكذا قد يتذكر أحدنا الذي غالباً ما يخشى موقف صعب، هذه الكلمات من الإنجيل: "لا تخف أنا معك."
• حفظ الذكريات: أن أتذكر خبرة الله التي اختبرتها في التعزية مثل شعب اسرائيل في الصحراء الذي تذكر ما صنعه الله معه حين أخرجه من مصر واتكل على تلك المحبة الخاصة.
يجب ألا نخشى التغيرات في الحركات الداخلية، إنها طبيعية. إنها تدل على وجود حياة روحية حقيقية تضعنا على خطى المسيح. وكلما كنا أكثر انتباهاً لما يجري في داخلنا، كلما استطعنا مقاومة العدو والاستمرار في طريقنا ذاته في التعزية، وكلما استطعنا أيضاً اكتشاف كيف أن الروح يقودنا واستطعنا المشاركة بذلك بكل حريتنا.